preloader

الأبعاد الرمزية في ثلاثية غرناطة

ثلاثية غرناطة رواية حائزة على جائزة أحسن كتاب في مجال الرواية لعام 1994م من معرض القاهرة الدولي للكتاب، وكذلك على الجائزة الأولى للمعرض الأول لكتاب المرأة العربية في نوفمبر 1995م.

غرناطة… مريمة … الرحيل…

تصور هذه الرواية بفصولها الثلاثة الحياة اليومية للمسلمين في الأندلس قبيل سقوط غرناطة بقليل، وتسرد أحداثها أحوالهم في آخر معاقلهم إلى أن تم إقصائهم بالكامل عن الأندلس، وذلك عبر التمعن المتقن في شخصيات الرواية الرئيسية على نحو غير مسبوق في تصوير الحياة في تلك الفترة الهمة من تاريخ المسلمين.

لقد تجاوزت الكاتبة “رضوى عاشور” في ثلاثيتها السرد التاريخي التقليدي للأحداث دون أن تتوقف عن السرد لحظة واحدة. ولعل هذا هو سر نجاح هذه الرواية، فهي كما يقول علي الراعي: “تجعل حقائق التاريخ تنتفض أمامنا حارة دافقة”. قضت رضوى عاشور جزأً مهماً من حياتها متنقلة مابين أسبانيا وبريطانيا وأمريكا. ولعل هذا ساهم إلى حد كبير في إثراء مخيلتها الخصبة بصور واقعية لشخصيات الرواية، وأوصاف دقيقة للعادات والأحوال السائدة في تلك الفترة، وذلك بجانب ماتتمع به من أسلوب لغوي بالغ الروعة. إن الرواية برغم رمزيتها التي لا تخفى عن المتمعن، لتغوص بالقاريء في أدق التفاصيل للحياة اليومية للناس في تلك الفترة، حتى لكأنك تشم رائحة الفطائر المقلية في زيت الزيتون (وهي مايطلق عليها الآن في شمال أفريقيا “السفنز” أي الأسفنج لشبهها به)، وحتى كأنك تتذوق معهم الكسكسي المزين بلحم الظأن، وحتى لكأنك تجالس أباجعفر الوراق منذ اللحظة التي رأى فيها في بداية الرواية تلك المرأة الغريبة العارية تنحدر في إتجاهه من أعلى الشارع وهو يغطيها بحرامه الصوفي الأبيض بينما هي ماضية في طريقها دون أن تأبه لأسئلته المتلاحقة لها من هي وماأسمها ومن تكون وأين دارها إلى أن يبتلعها الطريق المنحدر، ولعل هذا هو البعد الرمزي الأول في هذه الرواية، فماكانت تلك المرأة إلا غرناطة ذاتها أو الأندلس برمتها، وقد تعرت من كل عزها ومجدها وشرفها وإنحدرت بعد علوها إلى أن إختفت من على وجه الأرض تماماً، كما أختفت تلك المرأة العارية، التي رآها أبوجعفر في حلمه الذي أرادت الكاتبة أن تجعله بداية الرواية وتقدمه للقاريء وتبديه له كأنه حقيقة. وهي تستمر في إتباع هذا الأسلوب على نحو يبدو منهجياً خلال الراوية كلها. فيبدو لك أنه يتناهى إلى مسامعك طقطقة النار المشتعلة في الحطب وفي جسد سليمة الصامدة وهي مرفوعة الرأس، وقد تغلغل في شعاب ذاكرتها المتقدة بالأحداث كما النار المشتعلة في جسدها، فيخيل إليك أنك تراها وهي تلتهم الكتب مند نعومة أظافرها، وتراها وهي تسابق الريح منحدرة من حارة البيازين مع حسن أخيها سعد ونعيم اللذين كانا يعملان عند أبيها ثم صارا كأفراد من العائلة، وتراها تراقب بشغف لاحدود له أولئك القادمين لتوهم من العالم الجديد “أمريكا” وقد صحبوا معهم الفواكه الغريبة والذهب والعبيد الجدد يتقدمهم قائد الرحلة الإستعماري الأهداف “كولومبوس”.. ثم تتبدى لك سليمة وهي تجري التجارب في طموح لايندمل فتستخرج الأدوية وتعالج الناس وتصير من طبيبات غرناظة االمعروفات إلى أن يقبض عليها بتهمة الشعوذة وممارسة السحر الأسود والإنتماء سراً إلى الإسلام، حيث أن كل المسلمين الذين بقوا أحياء أجبروا إبان تلك الفترة على إعتناق الكاثوليكية والتسمي بأسماء مسيحية قشتالية، ومن وجد يمارس أية شعيرة من شعائر الإسلام، يقدم للمحاكمة ويقتل حرقاً بالنار، هذا طبعاً بعد أن يتعرض إلى أشد أنواع التعذيب الجسدي والنفسي تحت إشراف الآباء والقسيسين والرهبان، على نحو لم يعرف التاريخ له مثيلاً. وقد نقلت الرواية طرفاً صغيراً من محاكمات التفتيش مصورةً ذلك النقاش البائس الذي كان يدرور بين القضاة بخصوص سليمة، كما نقلت ذلك التوجس الرهيب الذي كان يعاني منه المسلمون بعد أن سلموا غرناطة، وتلك الإجراءات المتعسفة التي ظل يتخذها القشتاليون ضد المسلمين برغم أنهم أضطروا لإعتناق المسيحية والتسمي بأسماء قشتالية وممارسة كل الطقوس الدينية المفروضة عليهم فرضاً بقوة القانون وسطوة السيف.

لقد تسنى لي قراءة هذه الرواية وأنا في رحلة من أثينا إلى أمريكا إستمرت عشر ساعات كاملة. وتابعت من مقعدي في تلك الطائرة اليونانية المنطلقة فوق المحيط الأطلنطي سعداً وقد توغل في لحظة غضب في شعاب الجبال لينضم إلى الثوار المسلمين الذين إعتصموا بالجبال وظلوا يغيرون على المدن القريبة لينالوا من القشتاليين بقدر مايستطيعون، وإذا بسعد يتحول إلى واحد من أبرع المهربين للأسلحة والعتاد إلى الثوار في قمم الجبال، ويغيب تماماً عن غرناطة إلى أن يوقع به، ويعذب عذاباً رهيباً قبل أن يسلم إلى غرناطة ليشهد بأم عينيه زوجته سليمة وهي تلتهما النار. وتابعت نعيماً الغارق في الحب مع كل غادية يراها في أزقة غرناطة أو على حافة نهر أو في وجه إمرأة يافعة مقيدة اليدين والكاحلين مع العبيد الذين جلبهم كولومبوس معه من أمريكا، إلى أن يطوقه الحب فيرتبط بواحدة من نساء تلك البلاد الجديدة بعد أن تبع سيده القس الذي هاجر إلى أمريكا ليكتب بعض الكتب هناك. وتابعت حسناً الذي فقد بناته الخمسة بزواجهن بعيداً عنه إلى إخوة شباب من عائلة مسلمة كانوا من المرضي عنهم، ثم غضب عليهم حكام الأندلس الجدد فشردوا بهم، ومعهم شرد ببنات حسن اللاتي لم يرهن بعد ذلك، وخسر خانه، وصار قعيداً كسيحاً. فينتقل المشهد منه سريعاً إلى زوجته مريمة القوية السريعة البديهة والتي تتماسك إلى النهاية برغم المحن والألم والحزن، حتى تموت وهي على ظهر حفيدها “علي” الذي كان يحملها دون أن يدري أنها فارقت الحياة أثناء الرحيل الجماعي القسري لكل المسلمين القدامى وأبنائهم وأحفادهم، الذي أمر به حكام غرناطة. ماتت “مريمة” والدموع لم تزل رطبة في مآقيها. وتتراءى حياتها لي وأنا أقرأ الرواية فأراها وهي في بيت أبيها المنشد لقصائد المديح، ثم في حضن أم جعفر جدة زوجها حسن الطيبة القلب، ثم تصير صديقة حميمة لسليمة التي صارت تحثها على القراءة والتعلم. ثم أراها في بيتها في حارة البيازين وبيتها في عين الدمع، حتى أكاد أسمع حركة يديها وهي تعجن فطائرها وتحملها كل صباح لتبيعها وتعول حسناً ونعيماً وحفيدها الطفل النامي “علي” إبن إبنها وإبن بنت سليمة وسعد. علي الذي استبدت به الرواية عن قصد لتجعله عقيماً بلانسل، وحيداً بلا أحد، غريباً بلا أنس، مثله مثل غرناطة أو الأندلس ذاتها. إذا كانت مريمة هي الرمز لكل أولئك الذين ماتوا في الأندلس المفقودة، فإن علياً هو الرمز لكل أولئك الذين تعذبوا طويلاً ثم ذابوا في الخضم الجديد. عاش بعيداً عن أبيه، الذي انضم إلى الثور مند مطلع شبابه، وفقد أمه وهو صغير، وفقد الجميع وهو صبي، وأحب حين أحب طفلة يواربها باب بيتها، ليظل طيفها يراوده طوال حياته، لتتراءى له في شخص طفلة أخرى وهو في مكتمل رجولته، فلايمنحها إلا الإهتمام من بعيد والحلم بنهاية هو يعلم أنها لن تحدث. وشرد به وطاف هنا وهناك، وسجن وأخذت منه أملاكه ووقع على بيعها حين لم يبعها، لينتهي به المطاف في الجعفرية، ثم مختاراً أمام البحر ليقرر البقاء في الأندلس مخلفاً البحر وراء ظهره وينسل إلى الداخل بين أفواج البشر الغادين هنا وهناك. ليذوب وحيداً من غير نسل داخل تلك الباسلة التي صارت شيئاً غير الذي كان. لقد كان علي وأحلامه الغير مشبعة هو الرمز لأولئك الرجال والنساء الذين ذابوا في الحياة الجديدة كما يذوب الملح في آخر الأمر في الماء.

لقد بينت الرواية كيف تشبت المسلمون بكل ماتبقى لهم من دينهم، وكيف وقفوا صادمين برغم الحيف والظلم والقمع الذي أحيق بهم بعد أن تم إبتلاع “غرناظة” من قبل القشتاليين…غرناطة أجمل بلاد الدنيا في ذلك الوقت..وآخر معاقل المسلمين في الأندلس.

وبرغم بعض الهنات، مثل الشك الذي عصف بإيمان أبي جعفر، ثم بسليمة إبنته، بشكل لايتناسب مع قوتهما وصلابتهما. ومثل فقر الرواية من الحوار الآخر، فنحن نرى القشتاليين ونسمعهم من خلال أعين الغرناطيين المسلمين، فبإستثناء ذلك الحوار القصير بين القضاة القساوسة الذين حاكموا سليمة، تكاد تخلو الرواية من تصوير الحياة على الجانب الآخر عند القشتاليين. كما أن الرواية تكاد تخلو من الإسقاط المكاني الذي كان من الممكن أن يوظف بشكل جيد، فبإستثناء ذلك السرد الرائع لذلك الحاج الغرناطي الذي وصف لزواره الأماكن المقدسة وصفاً رائعاً دقيقاً أعتقد أن الكاتبة بدلت فيه جهداً خارقاً لتأتي به على هذه الصورة، كما وصف لهم القاهرة في تلك الفترة وصفاً جميلاً أخاذاً لابد أن الكاتبة إستعانت فيه برسومات وكتب ومعلومات لتأتي به على هذه الصورة التي تشعر القاريء وكأنه قد مضى إلى ذلك الزمن الغابر ورأى عياناً كل تلك الأشياء. أقول والكمال لله وحده، أن الرواية كان من الممكن أن تستخدم إسلوب الإسقاط المكاني بنقل صور وأحداث متزامنة في المشرق الإسلامي، لتحاول مثلاً أن تفسر لماذا تقاعست الخلافة العثمانية وهي في أوج قوتها في ذلك الوقت عن نصرة المسلمين في الأندلس.

برغم كل ذلك وغيره، إلا أن رواية ثلاثية غرناطة للكاتبة المصرية رضوى عاشور هي رواية جميلة العبارة، جانحة الخيال، مفعمة بالصور، مزدانة بالألوان، شاذية بالروائح وممتلئة بالحركة والنشاط. إنها رواية تأخذ بقارئها وتعبر به حدود الزمان والمكان، وهي تعد الأولى من نوعها التي حاولت تجسيد هذه الفترة التاريخية شديدة الأهمية من تاريخ المسلمين في الأندلس على هيئة رواية أدبية متكاملة وليس على نحو سرد تاريخي مطبوع.

عندما كانت الطائرة تستعد للهبوط في مطار نيويورك، كنت أطوي الصفحة الأخيرة للرواية، وكان يروادني شعور أنني بالفعل كنت هناك أجوب أزقة حي البيازين القديم وأتذوق طعم الملح في رذاذ البحر المتراطم على شفتي، وأنا أرقب علياً وهو يذوب مثل الملح في أفواج البشر الذين كانو ينطلقون في كل إتجاه حتى إختفى تماماً عن ناظري، مع آخر صفحة من صفحات الرواية، وأنا ألملم أوراقي لأستعد لمغادرة الطائرة، أو الرحلة ذات الأبعاد الثلاثة. ولقد كانت الرحلة في شوراع غرناطة العتيقة التي أخذتني الرواية إليها خارج حدود الزمان والمكان أمتع بكثير من الرحلة فوق المحيط الأطلنطي، غير أن الأولى إستمرت مئة عام والثانية لم تتجاوز العشر ساعات مند أن إنطلقت الطائرة من مطار أثينا. أي أنني عشت كل ساعة منها بعشر سنوات هناك.

إن ثلاثية غرناطة هي بلا شك رواية تستحق عناء قراءتها والتأمل فيها.. بل هي رواية لاتكلفك العناء أثناء القراءة، إنما تفرض عليك العناء فقط إذا فكرت أن تتركها قبل أن تنتهي من قراءتها

عبدالسلام محمد القطيط

مجلة فيلادلفيا، درنة

27 يناير 2008

Leave a Reply